فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة الروم:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

القول في تأويل قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [1- 6].
{غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين}
اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام، وفتح دمشق، وبيت المقدس، الأولى سنة 613، والثانية سنة 614، أي: قبل الهجرة النبوية بسبع سنين- فحدث أن بلغ الخبر مكة، ففرح المشركون، وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس وثنيون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنّ عليكم، فنزلت الآية، فتليت على المشركين، فأحال وقوع ذلك بعضهم، وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص، إن وقع مصداقها، فلم يمضِ من البضع- وهو ما بين الثلاث إلى التسع- سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621، أي: قبل الهجرة بسنة، فدوّخها، واضطر ملكها للهرب، وعاد هرقل بالغنائم الوافرة.
ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن، أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه، وفي ضمنه أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله، وزهوق الباطل، وعلوّ الحق، وجعل المستضعفين أئمة، وإيراثهم أرض عدوّهم، إلى غير ذلك.
وما ألطف ما قال الزبير الكلائيّ: رأيت غلبة فارس الرومَ، ثم رأيت غلبة الروم فارسَ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارسَ والرومَ، كل ذلك في خمس عشرة سنة- من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين- والأرض، كما قال الزمخشري: أرض العرب؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب أي: أقربها منهم، وهي أطراف الشام: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْل} أي: من قبل غلبة فارس على الروم: {وَمِن بَعْدُ} أي: من بعد غلبة الروم على فارس. ويقال: لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق، ومن بعد إفناء الخلق، والمعنى: أن كلاً من كونهم مغلوبين أولاً، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمره وقضائه، وعلمه ومشيئته، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عِمْرَان: 140].
{وَيَوْمَئِذٍ} أي: يوم إذ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أي: تغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. ويقال: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين: {يَنصُرُ مَن يَشَاء} أي: من عباده على عدوه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: القاهر الغالب على أمره، لا يعجزه من شاء نصره: {الرَّحِيمُ} أي: من نصره وتغليبه من يشاء: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: بحكمته تعالى، في كونه وأفعاله المحكمة، الجارية على وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم.

.تفسير الآيات (7- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [7- 8].
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} أي: التي هي المطلب الأعلى: {هُمْ غَافِلُونَ} أي: لا يُخطرونها ببالهم، فهم جاهلون بها تاركون لعملها.
لطائف:
قال الزمخشري: قوله تعالى: {يَعْلَمُوْنَ} بدل من قوله: {لَاْ يَعْلَمُوْنَ} وفي هذا الإبدال من النكتة، أنه أبدل منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: {ظَاهِراً} يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة، والأعمال الصالحة. انتهى.
وناقش الكرخي في إبدال: {يَعْلَمُوْنَ} قال: إن الصناعة لا تساعد عليه؛ لأن بدل فعل مثبت من فعل منفيٍّ لايصح. واستظهر قول الحرفيّ، أن: {يَعْلَمُوْنَ} استئناف في المعنى. وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير: {ظَاهِراً} تقليلا لمعلومهم. وتقليلُه يقربه من النفي، فيطابق المبدل منه.
أقول: التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشري: وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً، من جملة الظواهر.
أما قول أبي السعود: وتنكير: {ظَاهِراً} للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم. فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه. فافهم.
ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة بقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} أي: يحدثوا التفكر في أنفسهم، الفارغة من الفكر والتفكر. فالمجرور ظرف للتفكر، ذكره لزيادة التصوير؛ إذ الفكر لا يكون إلا في النفس، والتفكر لا متعلق له؛ لتنزيله منزلة اللازم. وجوز كون المجرور مفعول: {يَتَفَكَّرُوْا} لأنه يتعدى بـ في أي: أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم. فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع، وقوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} متعلق بقولٍ أو علمٍ، يدل عليه السياق، أي: ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا.
وقال السمين: {مَاْ} نافية، وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما- أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. والثاني- أنها معلقة للتفكر. فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض. انتهى. والباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة، أي: ما خلقها باطلاً ولا عبثاً بغير حكمةٍ بالغةٍ، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحق: {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: وبتقدير أجلٍ مسمى، لابد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب. ولذا عطف عليه قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}.

.تفسير الآيات (9- 12):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [9- 12].
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} أي قلبوها للزراعة، واستخراج المعادن، وغيرهما، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي: بالأبنية المشيدة، والصناعات الفريدة، ووفرة العَدد والعُدد، وتنظيم الجيوش، والتزيّن بزخارف أُعجبوا بها، واستطالوا بأبهتها، ففسدت ملكاتهم، وطغت شهواتهم، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم، كما قال: {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أي: الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي: فكذبوهم فأهلكهم، فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم: {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا} أي: عملوا السيئات: {السُّوأَى} أي: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم، و{السُّوأَى} تأنيث الأسوأ، وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى: {أَنْ} أي: لأن: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْق} أي: ينشئهم: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: بعد الموت بالبعث: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: إلى موقف الحساب والجزاء: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} أي: يسكتون متحيرين يائسين. يقال أبلس، إذا سكت وانقطعت حجته.

.تفسير الآيات (13- 18):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [13- 18].
{وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} أي: يجيرونهم من عذاب الله، كما كانوا يزعمون: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} أي: بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى، حيث وقفوا على كنه أمرهم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} أي: يتميز المؤمنون والكافرون في المحال والأحوال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي: يسرّون: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي: لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} لما ذكر الوعد والوعيد، تأثره بما هو وسيلة للفوز والنجاة، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والثناء عليه بصفاته الجميلة، وأداء حق العبودية، والفاء للتفريع فكأنه قيل: إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين، فقولوا: نسبح سبحان الخ. والمعنى فسبحوه تسبيحاً دائماً. وسبحان: خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده، أي: الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته.
وقوله تعالى: {وَعَشِيّاً} معطوف على: {حِينَ} وتقديمه على: {حِينَ تُظْهِرُونَ} لمراعاة الفواصل، وقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ} معترض بينهما. والمراد بثبوت حمده فيهما، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلها. قال أبو السعود: والإخبار بثبوت الحمد له، ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده، وتوسيطه بين أوقات التسبيح، للاعتناء بشأنه، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]، وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98]، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس:
{تُمْسُوْنَ}: صلاة المغرب والعشاء. و{تُصْبِحُوْنَ}: صلاة الفجر. و{عَشِيّاً} صلاة العصر. و{تُظْهِرُوْنَ}: صلاة الظهر. فإن قيل: لم غيّر الأسلوب في: {عَشِيّاً}؟ أجيب، كما قال أبو السعود: بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي، كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السرّ في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس، وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً؛ لوصفهم بالخروج عما قبلها، والدخول فيها، كالأوقات المذكورة. فإن كلاً منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيراً ظاهراً، أما في المساء والصباح فظاهر، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة، كما مر في سورة النور. انتهى.

.تفسير الآيات (19- 21):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [19- 21].
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي: كالْإِنْسَاْن من النطفة، والطائر من البيضة: {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} كالنطفة والبيضة من الحيوان: {وَيُحْيِي الْأَرْض} أي: بالنبات: {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: يبسها: {وَكَذَلِك} أي: ومثل ذلك الإخراج: {تُخْرَجُونَ} أي: من قبوركم.
وقال المهايمي: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، ومن طريق الإشارة: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي: الباهرة الدالة على قدرته على البعث: {أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} أي: يعني أصلكم آدم عليه السلام، أو النطفة والمادة، أو على تقدير مضاف، أي: ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم، وصفاتكم: {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} أي: في الأرض انتشاراً ملأ البسيطة وشمل الكرة، فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كلٌّ بحسبه.
فسبحان من خلقهم وسيرهم، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: جنسكم: {أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي: تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي: تواداً وتراحماً بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.

.تفسير الآيات (22- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [22- 25].
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} أي: أُولي العلم كما قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]،: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: لاستراحة القوى، ورد ما فقدته: {وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} أي: بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: سماع تفهم واستبصار: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً} أي: من الصاعقة: {وَطَمَعاً} أي: في الغيث والرحمة، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ} أي: بالنبات: {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: يبسها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي: إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشائهما؛ لأنه قد بين حاله بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 22]، ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل، فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به، تعويلاً على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] الآية، بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الروم: 8]، وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضاً، فقيل: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما، ثم إذا دعاكم، أي: بعد انقضاء الأجل من الأرض، وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال: أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها [؟؟]، وذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه: 108]، انتهى.
لطائف:
الأولى- الدعاء: إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل، شبه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه، أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.
الثانية- قوله تعالى: {مِنَ الأَرْضِ} متعلق بـ: {دَعَا} كقوله: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، لا بـ: {تَخْرُجُوْنَ}؛ لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله.
الثالثة- قال الكرخي: قال هنا: {إٍذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} وقال في خلق الْإِنْسَاْن: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]، لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلاً للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج، فلم يقل هنا: ثم. انتهى.